الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام
.باب الصوم في السفر: 1- عن عائشة رضي الله عنها: أن حمزة بن عمرو الأسلمي قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أأصوم في السفر؟- وكان كثير الصيام- فقال: «إن شئت فصم وإن شئت فأفطر».وفي الحديث دليل على التخيير بين الصوم والفطر في السفر وليس فيه تصريح بأنه صوم رمضان وربما استدل به من يجيز صوم رمضان في السفر فمنعوا الدلالة من حيث ما ذكرناه من عدم الدلالة على كونه صوم رمضان.2- عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: «كنا نسافر مع النبي صلى الله عليه وسلم فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم».وهذا أقرب في الدلالة على جواز صوم رمضان في السفر من حيث إنه جعل الصوم في السفر بعرض كونه يعاب على عدمه بقوله: «فلم يعب الصائم على المفطر ولا المفطر على الصائم» ولذلك إنما هو في الصوم الواجب وأما الصوم المرسل: فلا يناسب أن يعاب ولا يحتاج إلى نفي هذا الوهم فيه.3- عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان في حر شديد حتى إن كان أحدنا ليضع يده على رأسه من شدة الحر وما فينا صائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن رواحة.وهذا تصريح بأن هذا الصوم وقع في رمضان ومذهب جمهور الفقهاء: صحة صوم المسافر والظاهرية خالفت فيه- أو بعضهم- بناء على ظاهر لفظ القرآن من غير اعتبار للإضمار وهذا الحديث يرد عليهم.4- عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فرأى زحاما ورجلا قد ظلل عليه فقال: «ما هذا؟» قالوا: صائم, قال: «ليس من البر الصيام في السفر».وفي لفظ لمسلم: «عليكم برخصة الله التي رخص لكم».أخذ من هذا: أنه كراهة الصوم في السفر لمن هو في مثل هذه الحالة ممن يجهده الصوم ويشق عليه أو يؤدي به إلى ترك ما هو أولى من القربات ويكون قوله: «ليس من البر الصيام في السفر», منزلا على مثل الحالة والظاهرية المانعون من الصوم في السفر يقولون: إن اللفظ عام والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب ويجب أن تتنبه للفرق بين دلالة السياق والقرائن الدالة على تخصيص العام وعلى مراد المتكلم وبين مجرد ورود العام على السبب لا يقتضي التخصيص به كقوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] بسبب سرقة رداء صفوان وأنه لا يقتضي التخصيص به بالضرورة والإجماع أما السياق والقرائن: فإنها الدالة على مراد المتكلم من كلامه وهي المرشدة إلى بيان المجملات وتعيين المحتملات فاضبط هذه القاعدة فإنها مفيدة في مواضع لا تحصى وانظر في قوله عليه السلام: «ليس من البر الصيام في السفر» مع حكاية هذه الحالة مع أي القبيل هو؟ فنزله عليه.وقوله: «عليكم برخصة الله التي رخص لكم» دليل على أنه يستحب التمسك بالرخصة إذا دعت الحاجة إليها ولا تترك على وجه التشديد على النفس والتنطع والتعمق.5- عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في السفر فمنا الصائم ومنا المفطر قال: فنزلنا منزلا في يوم حار وأكثرنا ظلا: صاحب الكساء ومنا من يتقي الشمس بيده قال: فسقط الصوام وقام المفطرون فضربوا الأبنية وسقوا الركاب فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ذهب المفطرون اليوم بالأجر».أما قوله: «فمنا الصائم ومنا المفطر» فدليل على جواز الصوم في السفر ووجه الدلالة: تقرير النبي صلى الله عليه وسلم للصائمين على صومهم.وأما قوله صلى الله عليه وسلم: «ذهب المفطرون اليوم بالأجر» ففيه أمران:أحدهما: أنه إذا تعارضت المصالح قدم أولاهما وأقواها.والثاني: أن قوله عليه السلام: «ذهب المفطرون اليوم بالأجر» فيه وجهان:أحدهما: أن يراد بالأجر أجر تلك الأفعال التي فعلوها والمصالح التي جرت على أيديهم ولا يراد مطلق الأجر على سبيل العموم.والثاني: أن يكون أجرهم قد بلغ في الكثرة بالنسبة إلى أجر الصوم مبلغا ينغمر فيه أجر الصوم فتحصل المبالغة بسبب ذلك ويجعل كأن الأجر كله للمفطر وهذا قريب مما يقوله بعض الناس في إحباط الأعمال الصالحة ببعض الكبائر وأن ثواب ذلك العمل صار مغمورا جدا بالنسبة إلى ما يحصل من عقاب الكبيرة فكأنه المعدوم المحبط وإن كان الصوم ههنا.ليس من المحبطات ولكن المقصود: التشبيه في أن ما قل جدا قد يجعل كالمعدوم مبالغة وهذا قد يوجد مثله في التصرفات الوجودية وأعمال الناس في مقابلتهم حسنات من يفعل معهم منها شيئا بسيئاته ويجعل اليسير منها جدا كالمعدوم بالنسبة إلى الإحسان والإساءة كحجامة الأب لولده في دفع المرض الأعظم عنه فإنه يعد محسنا مطلقا ولا يعد مسيئا بالنسبة إلى إيلامه بالحجامة ليسارة ذلك الألم بالنسبة إلى دفع المرض الشديد.6- عن عائشة رضي الله عنها قالت: (كان يكون علي الصوم من رمضان فما أستطيع أن أقضي إلا في شعبان).فيه دليل على جواز تأخير قضاء رمضان في الجملة وأنه موسع الوقت وقد يؤخذ منه: أنه لا يؤخر عن شعبان حتى يدخل رمضان ثان.وأما اختلاف الفقهاء في وجوب الإطعام على من أخر قضاء رمضان حتى دخل رمضان ثان: فمما لا يتعلق بهذا الحديث وقد تبين في أخرى عن عائشة رضي الله عنها أن هذا التأخير كان للشغل برسول الله صلى الله عليه وسلم.7- عن عائشة رضي الله عنها: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من مات وعليه صيام صام عنه وليه».وأخرجه أبو داود وقال هذا في النذر وهو أحمد بن حنبل.ليس هذا الحديث مما اتفق عليه الشيخان على إخراجه وهو دليل بعمومه على أن الولي يصوم عن الميت وأن النيابة تدخل في الصوم وذهب إليه قوم وهو قول قديم للشافعي والجديد الذي عليه الأكثر ون: عدم دخول النيابة فيه لأنها عبادة بدنية والحديث لا يقتضي بالتخصيص بالنذر كما ذكر أبو داود عن أحمد بن حنبل نعم قد ورد في بعض الروايات: ما يقتضي الإذن في الصوم عن من مات وعليه نذر بصوم وليس ذلك بمقتض للتخصيص بصورة النذر وقد تكلم الفقهاء في المعتبر في الولاية على ما ورد في لفظ الخبر أهو مطلق القرابة أو بشرط العصوبة أو الإرث؟ وتوقف في ذلك إمام الحرمين وقال: لا نقل عندي في ذلك وقال غيره من فضاء المتأخرين: وأنت إذا فحصت نظائره وجدت الأشبه: اعتبار الإرث.وقوله: «صام عنه وليه» قيل: ليس المراد أنه يلزمه ذلك وإنما يجوز ذلك له إن أراد هكذا ذكره صاحب التهذيب من مصنفي الشافعية وحكاه إمام الحرمين عن أبيه الشيخ أبي محمد وفي هذا بحث وهو أن الصيغة صيغة خبر أعني صام ويمتنع الحمل على ظاهره فينصرف إلى الأمر ويبقى النظر في أن الوجوب متوقف على صيغة الأمر المعينة وفي افعل مثلا أو يعمها مع ما يقوم مقامها.وقد يؤخذ من الحديث: أنه لا يصوم عنه الأجنبي إما لأجل التخصيص مع مناسبة الولاية لذلك وإما لأن الأصل: عدم جواز النيابة في الصوم لأنه عبادة لا يدخلها النيابة في الحياة فلا تدخلها بعد الموت كالصلاة وإذا كان الأصل عدم جواز النيابة: وجب أن يقتصر فيها على ما ورد في الحديث ويجري في الباقي على القياس وقد قال أصحاب الشافعي: لو أمر الولي أجنبيا أن يصوم عنه بأجرة أو بغير أجرة جاز كما في الحج فلو استقل به الأجنبي ففي إجزائه وجهان أظهرهما: المنع وأما إلحاق غير الصوم بالصوم: فإنما يكون بالقياس وليس أخذ الحكم عنه من نص الحديث.8- عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم شهر أفأقضيه عنها؟ فقال: «لو كان على أمك دين أكنت قاضيه عنها؟». قال: نعم, قال: «فدين الله أحق أن يقضى».وفي رواية: جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إن أمي ماتت وعليها صوم نذر أفأصوم عنها؟ فقال: «أرأيت لو كان على أمك دين فقضيته أكان ذلك يؤدي عنها؟», فقالت: نعم قال: «فصومي عن أمك».أما حديث ابن عباس: فقد أطلق فيه القول بأن أم الرجل ماتت وعليها صوم شهر ولم يقيده بالنذر وهو يقتضي: أن لا يتخصص جواز النيابة بصوم النذر وهو منصوص الشافعية تفريعا على القول القديم خلافا لما قاله أحمد.ووجه الدلالة من الحديث وجهين:الوجه الأول: أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر هذا الحكم غير مقيد بعد سؤال السائل مطلقا عن واقعة يحتمل أن يكون وجوب الصوم فيها عن نذر ويحتمل أن يكون عن غيره فخرج ذلك على القاعدة المعروفة في أصول الفقه وهو أن الرسول عليه السلام إذا أجاب بلفظ غير مقيد عن سؤال وقع صورة محتملة أن يكون الحكم فيها مختلفا: أنه يكون الحكم شاملا للصور كلها وهو الذي يقال فيه ترك الاستفصال عن قضايا الأحوال مع قيام الاحتمال: منزلة العموم في المقال وقد استدل الشافعي بمثل هذا وجعله كالعموم.الوجه الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم علل قضاء الصوم بعلة عامة للنذر وغيره وهو كونه عليها وقاسه على الدين وهذه العلة لا تختص بالنذر- أعني كونها حقا واجبا- والحكم يعم بعموم علته.وقد استدل القائلون بالقياس في الشريعة بهذا من حيث إن النبي صلى الله عليه وسلم قاس وجوب أداء حق الله تعالى على وجوب أداء حق العباد وجعله من طريق الأحق فيجوز لغير القياس لقوله: {فَاتَّبِعُوهُ} [الأعراف: 158] لاسيما وقوله عليه السلام أرأيت إرشاد وتنبيه على العلة التي هي كشيء مستقر في نفس المخاطب.وفي قوله عليه السلام: «فدين الله أحق بالقضاء» دلالة على المسائل التي اختلف الفقهاء فيها عند تزاحم حق الله تعالى وحق العباد كما إذا مات وعليه دين آدمي ودين الزكاة وضاقت التركة عن الوفاء بكل واحد منهما وقد يستدل من يقول بتقديم دين الزكاة عليه السلام: «فدين الله أحق بالقضاء».وأما الرواية الثانية: ففيها ما في الأولى من دخول النيابة في الصوم والقياس على حق الآدميين إلا أنه ورد التخصيص فيها بالنذر فقد يتمسك به من يرى التخصيص بصوم النذر إما بأن يدل دليل على أن الحديث واحد يبين من بعض الروايات: أن الواقعة المسؤول عنها واقعة نذر فيسقط الوجه الأول وهو الاستدلال بعدم الاستفصال إذا تبين عين الواقعة إلا أنه قد يبعد لتباين بين الروايتين فإن في إحداهما أن السائل رجل وفي الثانية أنه امرأة وقد قررنا في علم الحديث: أنه يعرف كون الحديث واحدا باتحاد سنده ومخرجه وتقارب ألفاظه وعلى كل حال: فيبقى الوجه الثاني وهو الاستدلال بعموم العلة على عموم الحكم وأيضا فإن معنا عموما وهو قوله عليه السلام: «من مات وعليه صيام صام عنه وليه» فيكون التنصيص على مسألة صوم النذر مع ذلك العموم راجعا إلى مسألة أصولية وهو أن التنصيص على بعض صوم العام لا يقتضي التخصيص وهو المختار في علم الأصول وقد تشبث بعض الشافعية بأن يقيس الاعتكاف والصلاة على الصوم في النيابة وربما حكاه بعضهم وجها في الصلاة فإن صح ذلك فقد يستدل بعموم هذا التعليل.9- عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر».تعجيل الفطر بعد تيقن الغروب: مستحب باتفاق ودليله هذا الحديث وفيه دليل على المتشيعة الذي يؤخرون إلى ظهور النجم ولعل هذا هو السبب في كون الناس لا يزالون بخير ما عجلوا الفطر لأنهم إذا أخروه كانوا داخلين في فعل خلاف السنة ولا يزالون بخير ما فعلوا السنة.
|